حتام نحن
مع الفتنة بإليوت ؟
تمهيد :
توماس ستيرنز إليوت ( Thomas sterns Eliot) . ولد سنة ۱۸۸۸ م وتوفي
سنة
١٩٦٥ م . نشأ بسنت
لويس مسوري من الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية وتلقى تعليمه الجامعي بين سنة
١٩٠٦ م و ١٩١٥م في هارفارد بأمريكا والسوربون بباريس وأكسفورد
بانجلترا واستقر
بانجلترا بعد سنة م ۱۹۱٥ وتجنس الجنسية
البريطانية ويذكر مترجموه أنه
كان من أسرة عريقة
الأصل من السلالات البريطانية القديمة ذات جاه وثراء . وكان هو مع أدبه في انجلترا
من رجال الأعمال الناجحين في ميدان النشر . وكان مرموق المكان بين أدباء عصره من
جانبي المحيط الأطلسي ، قريبا في المنزلة عندهم مما كان عليه أديبا الأمة العربية
الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين رحمهما الله . اشتهر أول أمره بعد نشره منظومته الأرض
المقفرة ( (The
Waste Land في سنة 1922 م
. ويقال : إنَّ الَّذي نُشر حينئذ كَانَ شيئًا مختصرا ، اختصره منها - وهي طويلة
جدا - صاحبه وأستاذه الروحي «إزرا باوند
Ezra Pound) ) وعندي أن مثل هذا القول ، صح أو لم
يصح ، مما لا ينبغي أن يُعَوَّل
عليه. وإليوت أعظم
بها شهرة بين أدباء الغرب المتعلقين به منه بغيرها ، ولكنه في فرنسا
مثلا أعظم شهرة بمسرحيته
( مَقْتَل في الكنيسة Murder in the cathedral ) وللناس
في ما يعشقون مذاهب
.
الفتنة
باليوت والأرض المقفرة وحتام نحن مع ذلك ؟
الفتنة بإليوت بين
أدباء العرب المعاصرين كبيرة جدا . وينسب إليه تفوق وإبداع وابتكار.
وتما ينسب إليه في
باب الابتكار مذهبه في الإشارات والاقتباس. وهذا المذهب قديم في اللغة الإنجليزية
وأقدم في اللغة العربية أفتن فيه من الجاهليين ، على سبيل المثال زهير ونابغة بني
ذبيان ، ودع الفرزدق وجريرًا وذا الرمة وأبا نواس وشيخ المذهب في المحدثين أبا
تمام وتلاميذه من لدن أبي العلاء إلى الحريري . ومن جون ملتون الشاعر
الإنجليزي الكبير المشهور ، استفاد هو طريقة مذهبه في الإشارات والاقتباس فتأمل
هذه الالتواءة ، وكأنما كَانَ أسلوب أمثالها لَهُ ديدنا وطبيعة ، والله تعالى أعلم
بسرائر غيابات النفوس. يدعو الداعون إلى الاقتداء بأسلوب إليوت والتمذهب بمذهبه
ويبغون بذلك النهوض بالشعر العربي الحديث وبث روح جديد فيه أو هكذا يقولون . وفي
هذه القضية نظر. هذا أقل ما يقال. ولو قلنا أنها قضية دعوى من الضلال البعيد
والانحراف السمج ما غلونا وإليك بعض البيان....
أولا : لفت نظري أن
تعليقات إليوت التي جعلها في ذيل منظومته المسماة :
The waste land
(الأرض المقفرة ) خالية من الإشارة إلى العرب وما يمت إلى العرب
وما العرب يمتون إليه القرءان مثلا والإسلام مَعَ أَنَّ هَذِه التعليقات ذات حظ
وافر من الحرص على إظهار المعرفة العريضة والإطلاع الواسع وبعض الغلو في ذلك حتى
أنها لتوشك أن تشمل أكثر أمم الأرض ولغتها وآدابها الحاضرة والغابرة.
ثانيا : لفت نظري
أنّ «إليوت قد ضمن منظومته الأرض المقفرة» (راجع :
The waste land and
other poems طبعة لندن في السنوات ۱۹۷۲ و ۱۹۷۳ و ١٩٧٥ م
في الأسطر ۱۰۰ - ۱۰۳ ص ۳۰ إشارة إلى شيء من شعر ولیم وردزورث الرومانتكي الإنجليزي
الكبير وفى السطر ٢٦٣ - ٢٦٥ من ص ٣٧ إشارة إلى شيء من شعر والتر دي لامير Walter de
la mare من شعراء صدر هذا
القرن الشديدي التأثر بالرومانتيكة . ولم يذكر في تعليقاته شيئا يدل على هاتين
الإشارتين. وقد يبدو لأوّل وهلة أن سبب هذا السكوت هو شهرة الشعر المشار إليه.
ولكننا نجد أن «إليوت» يشير إلى بيت مشهور تكرر في منظومته من شعر( سبنسر Spencer ) راجع ٢٣ و ٣٤ ص ١٧٦ و ١٨٣) وآخر مشهور جدًّا من شعر أندرو
مارفل Andrew marvel (راجع ص ٣٤ س ١٩٦) وأشياء معروفة من التوراة والإنجيل وغير ذلك .
إذن ينبغي أن نبحث عن سبب آخر لسكوت
إليوت عن البيان غير شهرة ما أشار إليه على نحو ما هو معروف من مذهبه.
ثالثا : لفت نظري أن
ذكر العرب الذي قد أضرب عنه إليوت كل الإضراب لَهُ ورود واضح في أصل الإشارتين
اللتين تضمنت معانيهما وألفاظهما الأسطار التي أشرنا اليها من قبل في منظومته -
الإشارة الوردزوثية ، نسبة إلى وليم وردزورث ، في الأسطر 100 - 103
، والإشارة
الديلميرية ، نسبة إلى والتر دي لامير ، في الأسطر ٢٦٣-٢٦٥
(أ) الإشارة التي
وردت من إليوت في س ۱۰۰ - ۱۰۳ من ص ٣٠ إلى شيء من
شعر
وليم وردزورث هي
قوله:
Yet there
the nightingale filled all the desert with inviolable
voice and
still she cried, and still the world pursues jug jug, to
dirty ears…
ترجمة
تقريبية :
ولكن هناك البلبل
ملأ كل الصحراء بصوت
لا يطمث ولا يغتصب
واستمر يصيح وتستمر
الدنيا تطارد
زقزقة صغيره إلى
الآذان القذرة
هذا والذي أشار إليه
إليوت من شعر وليم وردزورث هو قول هذا في منظومته
The Solitary Reaper ، أي الحاصدة المتوحدة :
O listen
for the vale profound
Is
overflowing with the sound
No
Nightingale did ever chant
More
welcome notes to weary bands
Of
travelers in some shady haunt
Among Arabian
Sands
وضعنا خطا تحت
الكلمة الدالة على العرب من نظم وردزورث لمجرد التنبيه على موضوعها وترجمة هذا النظم التقريبية كما يلى :
ألا فاسمع فإن الوادي العميق
يفيض مفعما بالصوت
وما غنى أبدا بلبل
نغمات أطيب لجماعات مضناة
من المسافرين في ظل مكان ما
بين الرمال العربية
حتام نحن مع الفتنة بإليوت ؟
أخذ إليوت معنى فيض الوادى وافعامة بالصوت من قول وليم وردزورث حيث قال (
راجع السطر الثاني من كلامه الذي مر) :
Overflowing with the sound
أي : يفيض مفعما بالصوت فجاء بقوله في السطر ١٠٠:
Filled all the desert
أي ملأ كل الصحراء كما مر بك في الترجمة ، وتتمة السطر في نعت البلبل بأن
صوته الذي ملأ الصحراء لا يستطيع أحد له اغتصأبا وطمنا inviolable ، وأصل هذا المعنى ماخوذ من حاصدة «وورد زوورث المتوحدة ، شبه
«إليوت صوت بلبله بالعذراء الحاصدة المتوحدة التي أفعم صوتها الوادي العميق وفضله
وردزورث على صوت كل بلبل، ونقل عذرية الحاصدة التي لا تنال لتوحدها وبداوتها إلى
الصوت نفسه فزعم لهُ عذرية سرمدية لا يستطاع نيلها بغصب وطمث ، لا يطمئها أحد لا
إنس ولا جان كحور الجنة . وأزعم أن «إليوت» لا يخلو أن يكون نظر في قوله : inviolable إلى المعنى القرآني - قال تعالى في سورة الرحمن
في وصف الحور العين : ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جان )
[الرحمن : ٥٦]، وذلك أن ترجمات القرآن في اللغة الإنجليزية وغيرها من لغات أوربا
كثيرة والاطلاع عليها واسع.
هذا وإليوت في السطر ۹۹ من منظومته يذكر تغيير صورة فيلوميل Philomel في نوع من تكلف وإقحام
The change of Philomel….
وهو يريد بذلك أن يوقع في وهمنا أنه يشير إلى خبر Philomel فيلوميا الأسطوري وخلاصته ( وقد أشار إليه في التعليقات ص ٤٦ ) أن
ملكا تزوج أخت فيلوميلا ( أو فيلوميل) ثم شغف بها حبا وغصبها نفسها ثم قطع لسانها
لكي لا تكلم أحدا بذلك فاحتالت على بث خبرها بتطريز طرزته... وتنتهى
الأسطورة بمسخ الغاصب والمرأتين طيرا ، وصيرورة فيلوميلا ( فيلوميل ) بلبلا لتتغنى
كالتعويض لها عن لسانها الذي قطع .
وما أشبه كلمة بلبل بفيلوميل لسهولة تحوّل الفاء والميم باء ويجوز أن أصل
اللفظين واحد قديم موغل في القدم. وهل لذلك صلة ببابل وهي من أمهات الحضارة؟ ومن
خطأ اليونان أو غيرهم في هذه الأسطورة نسبة الغناء إلى أنثى البلبل لأن الصادح في
الحقيقة هو الذكر. والدليل القاطع على أن أصل معنى إليوت أخذه من حاصدة «وردزورث» المتوحدة
محاكاته الواضحة لصياغة وردزورث».. استبدل «إليوت» قول «وردزورث» الرمال العربية» Arabia sands ، بقوله هو : «كل» الصحراء All the desert وما قوله كل الصحراء إلا كما لو قَالَ رمال العرب أو
الرمال العربية أو الصحراء العربية .
واستبدل «إليوت» قول «وردزورث» لجماعات مضنة to weary bands بقوله هو :
للآذان أو إلى الآذان القذرة وشبه الصياغة ودليل الأخذ في النص الإنجليزي
واضح جدا. ولاحظ مَعَ هَذَا أنَّ «إليوت» حذف اللفظ الدال على العرب حين استبدل
قول وردزورث : بين الرمال العربية بقوله هو : «كل الصحراء» .
Among Arabian Sands : وردزوث
Filled all the desert : إليوت
Jug jug
to dirty ears وقوله «إليوت» .
أي : زقزقة صفير البلبل إلى الآذان القذرة
.
إنما جاء فيه بحكاية الصوت (زق زق ) ؛ ليوهم بأنه يشير إلى شكسبير ومعاصريه لكثرة ورود هذه الحكاية في أشعارهم ويصرف
الأذهان عن محاكاته في أشعارهم ويصرف الأذهان عن محاكاته «لوردزورث» كما بينا من
قبل . ولا يخفى أن ثم رابطة قوية بين طي إليوت لذكر العرب وطيه لذكر
وردزورث وأن هَذَا الأمر قد كَانَ منه عن عمد لا مجرد مصادفة وأتفاق
(ب) : الإشارة الديلميرية نسبة إلى
والتردي لامير . قال «إليوت» في منظومته السطر ٢٦٣ - ٢٦٥ ص ٣٠ :
And a clatter and a clatter from within
Where fishmen lounge at noon, where the walls of Magnus
martyr hold
Inexplicable splendours of lonian white and gold
الترجمة التقريبية :
حيث يستريح صائدو الحوت في نصف النهار حيث جدران (كنيسة ) ماغنس الشهيد تحوى
ما يعجز الشرح من روعة الأبيض اليوناني والذهبي.
الكلمة inexplicable في هَذَا النّص ومعناها ما يعجز
الشرح والتفسير تشبه في روح الفكرة والصناعة كلمته التي تقدمت في أخذه من وردزورث
وهي inviolable
أي لا يستطاع اغتصابه. وفكرة الأبيض اليوناني والذهبي فيها مشابه من فكرة
إقحامه «فيلوميل» من قبل من حيث الإيهام بالرجوع إلى الأصول القديمة الكلاسيكية
وصرف النظر عن موضع الأخذ القريب.
وكذلك ذكر كنيسة ماغنس الشهيد وتعميته بذكر المعمارى رن Wren
في ص ٤٨ وهو السير كرستوفر رن Sir Christopher
wren
يشبه إقحامه « زق زق» ليصرف النظر عن أخذه عن دي لامير ويوهم بإشارة بدل ذلك إلى
هَذَا المعماري وعصره الرفيع في تاريخ الحضارة والفن والأدب.
عنى إليوت بالأبيض اليوناني والذهب من
قوله المتقدم نقوش الفسيفساء التي في سقف الكنيسة من الداخل وأصلها يوناني . وقول
«إليوت Magnus martyr أي ماغنس الشهيد عنى به كنيسة القديس ماغنس saint magnus ، وذلك اسم كنيسة مما صممه المعماري المهندس السير
كرستوفررن ، ومعنى مارت Marty التي أقحمها إليوت هو الشهيد ،
وصف به القديس ماغنس المسماة باسمه الكنيسة ، ( راجع A History of
Architecture
، أي تاريخ العمارة لمؤلفه السير بانستر فلتشر طبع مدينة لندن سنة ١٩٤٨ م ص
٨١١-٨١٥ ) .
السير كريستوفررن ) Sir Christopher
Wren1632
– 1723 ) من كبار رجال الفكر والعلم والهندسة والعمارة في بريطانيا في القرن
السابع عشر الميلادي، وثيق الصلة بملكها شارلس الثاني، أعاد تصميم عدد كبير من
كنائس مدينة لندن بعد حريقها الكبير في سنة ١٦٦٦ م ومما أعاد تصميمه كاتدرائية
القديس بولس المعروفة Saint Paul 's ونقوش سقفها
الداخلية البيض المذهبات تعد من الروائع وقد حاکی بها كريستوفر رن طريقة مايكل أنجلو
الفنان العظيم في تصميمه كنيسة القديس بطرس بروما وقد حاكي کرستوفررن فن
النهضة في سائر ما صممه ولا يستبعد أن يكون إليوت ضمن قوله ماغنس مار تر Magnus Martyr على شرحه المتكلف لَهُ فِي ص ٤٨ في التعليقات معنى
كاتدرائية القديس بولس تشبيها لها بكنيسة القديس بطرس في روما إذ لا يخفى أن بطرس
الحواري هو شهيد المسيحية العظيم
( ماغنس مارتر ) وهذا معنى جانبي تجيء ظلاله من طريق تداعى المعاني والأوّل
مع الشرح هو الظاهر ولكني أحسب أن هَذا هو المقصود وهو الأصل.
أضرب إليوت عن ذكر دي لامير وأخفاه .
وقول والتردي لامير الذي أشار إليه هو أول كلمته Arabia أي الجزيرة العربية هذا هو العنوان ( انظر ص ١٥٥ من مختارات الشعر
الإنجليزي المسماة :
Selection from
modern Poetsلصانعها .ج. س. سكوير J.C. Squire طبع لندن – مارتن
سكر Martin Secker سنه (۱۹۲۱) قَالَ والتر دي لامير في أوّل منظومته
Far are the shades of
Where the princes ride at noon
هذان أول سطرين وقد نظر إلى هذين السطرين وإلى ما بعدهما «إليوت» نظرا
شديدًا في الأسطر التي ذكر فيها فيلوميل والتي قبلها ( راجع من أول الفصل الذي
عنوانه لعبة الشطرنج حيث يبدأ بشيء كمحاكاة وصف شكسبير لسفينة كيلوباترا في السطر
(٩٩) وليس هنا موضع تفصيل ذلك. وترجمة سطري دي لامير على وجه التقريب:
هيهات ظلال جزيرة العرب
حيث يركب الأمراء في نصف النهار
استبدل «إليوت» عبارة دي لامير the shades
of Arabia
(ظلال جزيرة العرب) بعبارته هو the walls of Magnus
martyr
... (جدران كنيسة ماغنس الشهيد) .
حذف «إليوت» اللفظ الدال على العرب وهو جزيرة العرب Arabia واستبدله بكنيسة ماغنس الشهيد وجعل الجدران في مكان الظلال التي
في عبارة والتردي لامير ....
ولا يخفى أن الجدران وثيقة الصلة بالظلال. والفرار عن جزيرة العرب Arabia إن يك
بعضة صادرا عن تعصب ديني أو عنصري أو عقابيل شعور صليبي مما يدعو إلى
التماس ملجأ عن الكنيسة ؛ إذ لا يخفى أن ظلال جزيرة العرب لا تخلو من معنى ظلال
سيوف
محمد وصلاح الدين والإسلام والجهاد.
وقد كان والتر دي لامير ( ۱۸۷۳ - ١٩٥٦ م ) معاصرًا لإليوت ، أسن منه شيئًا .. وقد
وصفه تاريخ كمبريدج الصغير الآداب اللغة الإنجليزية بالأصالة والملكة ذات
الطبع
الجذاب - (انظر ص ٨٤٧-٨٤٨ من كتاب
The Concise
لمؤلفة جورج سامبسون George Sampson (طبعة ۱۹۷۵ م ) ، وقد كان ذا روح رومانتيكي .
وطوى «إليوت» ذكره طيا مَعَ إن شاهد محاكاته له واضح في الصياغة والتركيب كما طوى
ذكر العرب والجزيرة العربية.
واستبدل «إليوت» لفظ الأمراء The
Princes
الوارد في بيت دي لامير بقوله:
the fishermen أي : صائدو
الحوت وقول دي لامير ride يركب بقوله : Lounge
واحتفظ بلفظ نصف النهار at noon وهو وحده كاف في النميمة بالمحاكاة.. وكرر إليوت» لفظ where
(حيث ) الوارد في بيت دي لامير :
Where the prince ride art noon
(حيث يركب الأمراء في نصف النهار) يترنم به كما ترى. لا يخفى أن ثم رابطة
قوية بين طي إليوت لذكر دي لامير وجزيرته العربية كما بين طيه لذكر وردزورث ورماله
العربية.
بعض هذا مرجعه كما قدمنا منذ حين إلى الشعور الصليبي الموروث والتعصب
الديني والتعصب العنصري، وبعضه مرده إلى الزهو والغرور والاعتداد بالانتماء إلى
حضارة
اليونان والرومان وأوربا والسوربون وهارفارد وأكسفورد والاستنكاف عن أن
ينسب إلى
الرومانتيكية لا دعائه الانتساب إلى الكلاسيكية مع أنه غارق إلى أذنيه في
الرومانتيكية مدين لشاعرها وردزورث السابق لَهُ فِي الأوان ولشاعرها والتردي لامير
المعاصر له في الزمان، وبعضه مرده إلى شخصيته وبيئته كنشأته في أمريكيا وتحوّله
إلى الجنسية البريطانية وتقلب أهوائه في السياسة والدين، وأكثره مرده إلى طموح
جامح طلب بملكه محدودة المدى إن يساوى ملتون وشكسبير ويحل كمثل محلها في عصره،
معتمدا في ذلك على الكيد والمكر والدهاء كالذي رأيت من كتمانه محاكاته لوردزورث
ودي لامير وتغطية ذلك بضباب من الكلاسيكية والتعليقات الأكاديمية. وككتمانه أمر
دينه لهما وإضرابه عن ذكرهما في النص والتعليقات. كذلك كتم أمر دينه للعربية وأضرب
عن ذكره والإشارة إليه كل الإضراب.
ووجدت في كتاب برنارد برغونزي عن ت. س. إليوت في طبعته البريطانية الثانية سنة
۱٩٧٢ ص ۱٤۳ ، راجع الكتاب واسمه بالإنجليزية :
T.S. Eliot by Bernard Begonzi
أشطارا هجاه بها أحد نقاده ونصها كما يلي:
How UN pleasant to meet Mr. Eliot!
With his features of clerical cut,
And his brow so grim
And his mouth so prim
And his conversation, son nicely
Restricted to what precisely
And If and Perhaps and but.
وترجمتها على وجه التقريب:
ما أسمج لقاء المستر إليوت
بسمت تقاطيعه الإكليروسي
وبحاجبيه جد الكالح
وبفمه جد المتنطس
وبمحادثته الحريصة على أن تتقيد بأمثال : ماذا تقول على وجه التحديد ،
وأمثال : إذا كَانَ ويجوز ولكن. ومع ما في هذه الأشطار من سخرية ومرارة فإنّ الصورة
التي تطالع القارئ منها غير بعيدة الصفة والملامح جدا مما يطالع قارئ شعر «إليوت»
من أثناء أسطاره وتعليقاته قبل أن يطلع عليها. وفي الذي قدمنا ما عسى أن يشهد بصحة
ما نقوله في هذا الصدد.
قال الشاعر الجاهلي أحد أصحاب المعلقات، لبيد بن ربيعة العامري :
عفت الديار محلها ومقامها بمنى تأبد غولها ورجامها
وضعنا خطا تحت ( عفت الديار) إذ لفتنا قوة الشبه بين هذا التعبير وبين
عنوان إليوت المنظومته The Waste Land أي الأرض التي
جعلت عافية فأقوت وأقفرت وعفت وعفتها السنون :
وغير الأيام والليالي..
كما قال ذو الرمة.
في قاموس الدكتور صمويل جونسون أن معنى Waste
الصفة المشتقة من الفعل
أولا : يدل على تعفية المكان وجعله قفرًا . وثانيًا ك يدل على الخلو مثل
خلو الصحراء
والبرية التي لا ديار فيها. وكلا المعنيين متضمن في عنوان «إليوت» The Waste
Land
أي الأرض التي أقفرت أو الأرض المقفرة أو قل : عفت الديار.
ولإليوت بعد هذا العنوان عنوان ثان لفصله الأول هو :
The Burial of the Dead
أي: دفن الموتي.
هذا أيضًا لفت نظري على بعد في ذلك .
شعراء العرب تبدأ في باب الأطلال بذكر تعفية الديار ثم تذكر أن الرياح
دفنتها بما أهالته عليها من غبار ثم جاءت رياح أخرى فأزالت هَذَا الغبار فبدت
معالم الدار ظاهرة فيعرفها الشاعر بعد تأمل ، قال امرؤ
القيس :
فتوضح فالمقرأة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمال
وقال ذو الرمة : وبائيته مما ترجمه الإفرنج ونشروه وحققوه :
من دمنة كشفت عنها الصبا سفعًا
كما تنشر بعد الطية الكتب
وقال لبيد بعد قوله : ( عفت الديار) الذي معناه كمعنى عنوان اليوت
The
فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
أي كانت مدفونة فعرّتها الرياح فعرّتها السيول فأظهرتها، وذلك قولة:
وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها
وبعد تعفية الديار ودفن الرياح لها ثم كشفها لها من بعد وتعريتها لرسومها
حتى بدت كالنقش القديم على حجارة آثار الأمم الماضية، بعد هذا يقول لبيد :
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها
فعلا فروع الأبهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والعين ساكنة على أطلائها عوذا تأجل بالفضاء بهامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها
وموضع استشهادنا هو البيت الأول الدال على أن مدافع الريان التي
دفنتها الرياح، وهذا المعنى متضمن معروف، قد عريت فبدت ملمسًا عليها الآثار
كالنقوش، إما عرتها رياح معاكسة للتي دفنتها وإما عرتها السيول.
ورب قائل : أن المعاني مشتركة والعواطف الإنسانية التي تلابس المعاني
متقاربة، وخواطر البشر كثيرًا، ما تتفق، ولذلك قديمًا ما قيل : قد يقع الخاطر على
الخاطر كما يقع الحافر على الحافر، ويرد على مثل هَذَا القائل بأنّ الصياغات
والأشكال البيانية والرنات المعبرة المؤثرة هي التي يتفوق بها الشعراء والكتاب
والخطباء ويتميزون عن غيرهم ، وهي التي يقع فيها التقليد والأخذ والتوليد والنظر
والإغارة والاختلاس. ولقد فطن إلى ذلك نقاد العرب القدماء وخصصوا له الأبواب في
تصانيفهم. ومما تعمقوا في الفطنة إليه والتنبيه عليه أن الأخذ يكون في نوع الصياغة
كما يكون في المعاني. من ذلك مثلا ما ذكروه عن أبي عبادة البحتري أنه سأل النوبختي
عن بيت أبي نواس :
ولم أدر من هم غير ما شهدت به بشرقي
ساباط الديار البسابس
وهو آخر أبياته السينية الجميلة التي أولها:
و دار ندامي عطلوها وأذلجوا بها
أثر منهم جديد ودارس
أتدري من أين أخذ أبو نواس قوله ؟ قَالَ النوبختى . فقلت : لا . قَالَ من
قول أبي خراش :
ولم أذر من ألقى عليه رداءه ولكنه
قد سُلَّ عن ماجد محض
قلت له : والمعنى مختلف ؟ قَالَ : أمَّا ترى حذو الكلام واحداً؟ وأبو خراش
من شعراء هذيل والبيت من قطعة يذكر فيها أبو خراش مقتل أخيه عروة ونجاة ابنه خراش
ويمدح رجلا ألقى على خراش رداءه ليجيره
حتى نجا ، فلم يعرف هَذَا الرجل فهذا مراده من قوله : « ولم أدر من ألقى عليه
رداءه ) وفطن البحتري إلى أن أبا نواس حذا كلامه على نهج كلام أبي خراش مع اختلاف
المعنى والموضوع . وقد كان البحتري ناقدا ثاقب النظر ( راجع الذخيرة لابن بسام ،
دار الكتب مصر ۱۹۳۹م القسم الأول ، المجلد الأول ص . ( ٥٩ – ٦٠)
ومن أمثلة حذو الكلام على الكلام مع شدة مراعاة الصياغة على تقارب المعاني
قول المعري يصف نار القرى :
حمراء ساطعة الذوائب في الدجي ترمى بكل شرارة كطــراف
والطراف : ضرب من بيوت البادية .
حذا المعري كلامه على الآية : ﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾
[المرسلات : ٣٢] وقد نبه إلى هَذَا الزمخشرى في تفسير هذه الآية في الكشاف.
ومن أمثلة الحذو بمراعاة الصياغة مع تباعد المعاني قول المتنبي:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ويا
دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
وهو في نسيب قصيدته ( فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ) حذاه على منهج ليلى الأخيلية
في رثائها توبة بن الحمير حيث قالت :
فيا توب للهيجا ويا توب للندى ويا
تَوْبَ للمستنبح المتنور
اهتم أبو الطيب كما ترى بمحاكاة الإيقاع . ( راجع التماسة عناوين الشعراء ص
122 )
وإنما استطردنا هذا الاستطراد للتنبيه على أن الأخذ لا يقع في المعاني وحدها
وأن التشابه والتوافق وتوارد الخواطر في المعانى جائز ، أما الصياغات وأشكال
الأداء فأمرها مختلف ، ومتى وجدنا تشابها فيها وجب علينا أن نرجح أخذ المتأخر في
الزمان عن المتقدم وأن نجزم بذلك متى ما وجدنا ما يدل على الصلات والوسائط التي
يكون بها الأخذ
ورب حدس كترجيح وترجيح كجزم ، والله تعالى أعلم.
ونحن إذا ذكرنا لبيدا والأبيات الأوليات من معلقته نريد التنبيه على حذو
إليوت على
شكل القصيدة العربية بوجه عام وعلى أوّل معلقة لبيد بوجه خاص وكذلك حذاء
على نماذج من معلقة امرئ القيس - على أنه لا ينبغي أن ننسى غموض إليوت والتواءات أسلوبه
ولا شيئيته ذات السطح المتعمق.
سياق معاني لبيد هكذا :
(۱) تعفية الديار
(۲) اندفان الرسوم ثم تعريتها حتى وضحت معالمها
(۳) هطول أمطار الربيع وما نشأ عنها من زيادة التعفية
The
The Burial of the Dead
April is the cruelest month
جعلنا في مقابلة سياق لبيد بعض عناوين «إليوت» وابتداءاته سياق وتأليف
«إليوت» ينتهي بعد عنوانيه ( The Waste Land ) الأرض
المقفرة ، الأرض التي عفت ، عفت الديار The Burial of the Dead ) أي ( دفن الموتى ) وقد تقدم كلامنا عنه ، بذكره الربيع وأمطاره كالذي صنعه لبيد في
قوله:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها
قال «إليوت» بعد العنوانين اللذين يشبهان طريقة بدء قدمائنا بعفاء الديار
واندفانها
( انظر منظومته من السطر 1 إلى ٨ ص
۲۷) :
April is the cruelest month breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.
Winter kept us warm, covering earth in forgetful snow, feeding
A little life with dried tubers. Summer surprised us
نلفت النظر أول شيء إلى لزوم «إليوت» في خمسة من أسطاره هذه نظاما ذا شبه بالقافية
العربية وهو الصيغة الصرفية ( انق) ing وقد جاء بسجعة
تامة في breeding بریدنق - القاف مقاربة للكاف
كنطقها في دار جتنا ودارجة كثير من البلاد العربية
feeding (فيدنق) وكالتامة في stirring (ستيرنق ) وفى covering (كفرنق) وترجمة
كلام «إليوت» الذي مر كما يلى على وجه التقريب :
أبريل أقسى الشهور ، منبتا .
زهرة ليلى من الأرض الميتة ، مازجا .
الذكرى بالشهوة ، مثيرًا .
الجذور الفاترة بمطر الربيع .
كان الشتاء قد حفظنا في دفء ، مغطيا .
الأرض في الجليد الناسي ، مطعما .
حياة قليلة بانابيش جافة .
فاجأنا الصيف...
قول «إليوت : أبريل أقسى الشهور ... إلخ بعد تعفية الأرض The Waste Land
وبعد دفن الموتى The Burial of the Dead يشبه قول لبيد
:
رُزِقَتْ مَرَابيع النجوم وصابها وَدَقُ الرواعد جودها فرهامها
الجود بفتح الجيم وسكون الواو : المطر الغزير والرهام بكسر الراء وهاء
مفتوحة بعدها ألف ثم ميم : جمع رهمة بكسر الراء وسكون الهاء ، وميم مفتوحة بعدها
علامة التأنيث التاء المتحركة وهي الأمطار الخفاف اللطيفة . ترجمة هذا البيت كما ترجمه المستشرق الإنجليزي السير وليم جونز:
The rainy constellations of spring have made their hills
green and luxuriant
The drops from thunder clouds have drenched them with
profuse as well as gentle shower.
مجمل معنى كلام لبيد أن أمطار نجوم الربيع هطلت على هذا المكان المقفز
فزادته توحيشا لتعفيتها كل أثر ولخلوه من
الأحبة والحلول النعام والبقر الوحشية وما أشبه فيه بعد عهدهم. هذه قساوة لا تخفى.
مع هذا علينا أن نتذكر أن السير وليم جونز جاء في ترجمته بكلمة showers ومعناها
رش المطر وهموله في قوله :
Profuse, as well as gentle showers
ليدل بذلك على معنى المطر الغزير ( الجود ) والأمطار الخفاف اللطاف (
الرهام ) أو كما قَالَ لبيد : «وَدْقُ الرَّواعِد جَوْدُها فَرِهَامُها» .
قول وليم جونز هناshowers ينبغى أن يوقف عنده لأن هذه الكلمة كثيرًا ما ترتبط
في الذهن بالقول الإنجليزي المعروف الجاري مجرى المثل :
March winds, April showers, Bring fourth May flowers
أي رياح مارس وأمطار أبريل .
تخرج بهن أزهار مايو .
( لا يخفى أن مارس هو آذار وأبريل نيسان ومايو آيار فمن شاء أن يضع ذلك
مكان ما وضعناه فله أن يفعل) .
وأبريل بحبوحة أشهر الربيع فذكره يدل عليه. واستشهدنا بترجمة وليم جونز
لنشير إلى أنه لو صح أنّ «إليوت» اطلع عليها فإنه يكون بني قوله : « أبريل أقسى
الشهور» على كلمة showers الواردة فيها. وقد سبق التبيه منا
على أنه قوله : « أبريل أقسى الشهور»
بعد عنوانيه الدالين على العفاء والاندفان شبيه في سياق بسياق لبيد:
(۱) عفت الديار محلها فمقامها .........
(۲) جلا السيول عن الطلول.....
(۳) رزقت مرابيع النجوم .
ولا يقف الأمر عن هذا كما سيجيء من بعد إن شاء الله. هنا نتساءل : هل أطلع
إليوت» حقًا على ترجمة السير وليم جونز للمعلقات ؟
كان السير وليم جونز Sir William Jones ( ١٧٤٦ - ١٧٩٤
م) من قدماء الاستشراق وجها بذته تعلّم في هافار وإكسفورد ( التي قصدها «إليوت»
وتعلم بها ) وأتقن اللغات الكلاسيكية ( أي اليونانية القديمة واللاتينية ) مَعَ
الفرنسية ولغات أوربية معاصرة أخرى ، ودرس العربية والفارسية وكتب ملخصا في نحوها
وبعد درسه القضاء واشتغاله بالقانون عين قاضيا بالمحكمة العليا بفورت وليم (
كلكتا) بالهند وتعمق في درس السنسكريتية ( لغة الهند القديمة ) وكتب رسالة عن
الشعر الشرقي باللغة الفرنسية
Traite sur la poesie orientaie
طبعت أول مرة بلندن سنة ۱۷۷۱م وأعيد طبعها وأعاد كتابتها بلغته الإنجليزية أيضًا أشاد
فيها بمكان الشعر العربي ونبه على موضع معلقة لبيد وامرئ القيس ، واستشهد في ما
استشهد بقول أبي تمام :
إن القوافي والمساعي لم تزل مثل النظام إذا أصاب فريدا
هي جوهر نثر فإن ألفنه
بالنظم صار قلائدا وعقودا
مترجما للبيتين من دون ذكر نصهما العربي . وله مختارات من أشعار العرب
والفرس وأمم الشرق من ضمنه لامية المعري:
أعن وخد القلاص كشفت حالا ومن عند الظلام طلبت مالا
أوردها نموذجا لشعر المدح الذي أستشهد على أهميته ببيتي أبي تمام
المتقدمين. وكان
أبو تمام من أوائل من عرفه المستشرقون وطبعت حماسته في ألمانيا سنه ١٧٤٨
وترجمت
باللاتينية وقد تأثر جوتة الشاعر الألماني في ترجمته للامية المنسوبة
إلى تأبط شرا :
إن بالشعب الذى دون سلع لقتيلًا دمــــــه مـــــــا يـطـــــــل
بترجمة فريتاغ اللاتينية في ما زعمه المستشرق الإنجليزي السير شارلس ليال.
( انظر ترجمته لها وتعليقه ص ٥٠ ) من مختاراته المترجمه من الشعر العربي القديم :
Translations of Ancient Arabian Poetry
تأليف شارلس جيمس ليال Charles James Lyall الموظف ببنغال
طبع لندن ١٨٨٥ م) .
وترجمة السير شارلس ليال هذه ذكر هو نفسه أنه صنعها متأثرا بترجمة ألمانية
للحماسة.
وقد ترجم السير وليم جونز المعلقات السبع ترجمة حسنة ناصعة الأسلوب
وجعل لكل معلقة مقدمة موجزة وافية تحدث فيها عن الوزن وما يقابله من أوزان
الإنجليزية وعن طريقة أسلوب الشاعر ومعانيه وتشبيهاته ومجازه وعناصر الوحدة في
نظمه وأردف ذلك بكتابة بالحرف اللاتيني بحسب النطق لكل معلقة مبالغة منه في
التقريب. وقد تأثر به واقتدى ليال في كتابه المشار إليه آنفا ونيكلسون في ترجماته
التي ضمنها تاريخه للأدب العربي . ولم يترجم ليال من المعلقات غير آخر لامية امرئ
القيس وغير ميمة زهير وكأنه اكتفى في هذا المجال بعمل السير وليم جونز لجودته.
وترجمة السير وليم جونز للمعلقات في ٤٦ صفحة نشرت و طبعت بلندن سنه ۱۷۷۲ م وسنة ۱۷۸۳ م ومرات بعد ذلك
وتوجد من ذلك نسخ في مكتبة المتحف البريطاني رأيتها ومن قبل اعتمدت على
نسخة صورت لى منها نسخة من رسالته عن الشعر الشرقي المشار إليها آنفًا ولا ريب في
وجود نسخ من مؤلفاته بأكسفورد وسوى ذلك من خزانات الجياد ، وترجمة السير وليم جونز
المستشرق في الجزء الثالث عشر من الموسوعة البريطانية ومكان اسمه في الفهارس عامر بما
له من تصانيف ومن أهم تأليفه ترجمته للسكونتالة وهي من مسرحيات اللغة الهندية القديمة
وترجع الموسوعة البريطانية ( ج ۱۳ ص ٢٤٤ طبعة ١٩٤٧ م) أن مؤلفها كالداسة Kalidasa من أدباء الهند القديمة عاش في المائة الميلادية الثالثة . وللسير
وليم جونز كتاب في الموازنة بين تشريع الملكية الخاصة عند المسلمين وعند الهندوس
وغير ذلك مما هو أدخل في حدود فلسفة القانون وعلوم الاجتماع.
إذا تذكرت أيها القارئ الكريم أنّ إليوت» كَانَ عَلى جوينب من الاستشراق إذ
قد درس لغة الهند القديمة سنتين بهارفارد وفلسفة الهند مدى سنة وهو يعد للدكتوراه
، ثم عدل عن ذلك لما وجد فيه من العسر وقد قَالَ إن دراسته هَذه ، معترفا بما أصاب
فيها من مشقة ، تركته في حيرة مستنيرة enlightened
mystification راجع كتاب برغونزي ص (۲۳) ومع ذلك
كان يزعم أنه كان يتذوق الشعر السنسكريتي وقد ترك في نفسه أثرًا عظيما. إذا
تذكرت هذا وأضفت إليه صحبته لازرا باوند و تأثره به وكان هذا ذا ولع صادق فيه أو
كاذب بلغة الصين وآدابها. وإذا أضفت أيضا أن «إليوت» اتصل بجامعة التصوريرين imagists- وكانوا يدعون
إلى محاكاة أشعار الشرق وأساليب أغاني العهد القديم العبرانية ، وزدت عَلَى هَذَا
أن إليوت نفسه قد ذكر أنّه كَانَ قرأ في صباه
رباعيات الخيام المترجمة وأعجب بها .
أحسب أن «إليوت» ذكر أن ذلك كان منه في زمان الصبا أنفة منه أن ينسب إلى
الرومانتيكية وهو صاحب كلاسيكية في زعمه وواقعية جادة ، ونذكر على سبيل الاستطراد
في هَذَا الصدد مقال برتراند رسل Bertrand Russell في کتابه :
History of Western Philosophy تاريخ الفلسفة الغربية طبعة ١٩٧٤ ص 654 حيث قال عن الرومانتكيين الألمان أنهم كانوا
شبابًا في أوج شبابهم كان أجود تعبيرهم عن الروح الرومانتكيكي ، أما الذين لم
يسعدهم الحظ منهم بالموت في الشباب كما قال فقد طاحت فرديتهم إذ طغت عليها فغطتها
الكثلكة بما تتطلبه من خضوع وتسليم. فهل كان تراجع إليوت من مذهب أسرته وإبائه
البيوريتاني – والبيوريتانية طرف من المذهب البروتستانتي – إلى محافظة الكثلكة
الإنجليزية من دافع رومانتكي يا تري ؟ - هَذَا وإذا تذكرت مَعَ ما تقدم أن إليوت
أديب مثقف ناقد قارئ وذو دعوى في ذلك طويلة عريضة ، ألا ترجح معي حينئذ ألا يكون
قد خفى عنه مكان السير وليم جونز المستشرق في معرفته باللغات الشرقية والصينية والسنسكريتية
وآدابها وفلسفة الهند القديمة مما زعم أنه أثر فيه وإن يك قد وجد فيه عسرا وانصرف
عن مواصلة درسه متحيرا مستنيرا كما زعم ، ولعل السكونتالة مع ترجمة وليم جونز كانت
من مقرر الدرس , وقد كانت رسالته الفرنسية وأختها الإنجليزية عن الشعر الشرقي
معروفتين عند المستشرقيين وقد ذكرنا أنه نبه على المعلقات وعلى امرئ القيس ولبيد
وقد دافع عن شعر العرب وقطع بأن الإفرنج الأوائل إنّما أخذوا القوافي عن عرب
الأندلس.
أضف إلى هَذَا أن «إليوت» كَانَ معجبًا بالبريطانيين وإمبراطوريتهم معتزا
بذلك ، وقد ترك بلاده التي كانت تعد من بلاد الرمز إلى الحرية لثورتها على
الاستعمار في سنة ١٧٨١ م ولاعلانها حقوق الإنسان ، وتجنس بالجنسية البريطانية
وببريطانيا أقام وإلى كنيستها الأنجلو كثوليكية انتمى.
ونذكر من باب الاستطراد أنّ «إليوت» كَانَ شديد الإعجاب بالشاعر المعاصر
الزمان شكسبير جون دون John Donne وكان غامض العبارة كثير الإشارة
ملتوي عقد الأسلوب واسع الاطلاع عالما بالكوميديا الآلهية لدانتي في نصها الأصيل
من أسرة متطرفة في الكثلكة نشأ كاثوليكيا ثم تحول إلى كنيسة إنجلترا
الأنجلوكثوليكية وأخلص في خدمة الملك واتهمه
بعض نقاده بأنّه كَانَ في نفسه
منطويًا على شعور بالخيانة لعقيدته وتراث أسرته فذلك جر عليه كثيرًا مما أخذ به من
عقد الأسلوب. وحمد النقاد لجون دون أنه قارب برنة
نغمة الشعرى رنات نبرات الكلام الذي يدور في حديث الناس. هَذَا الشيء بالشيء يذكر،
فتأمل.
ونعود إلى ما كنا فيه فنقول لابد أن يكون (إليوت ) قد اطلع على مؤلفات
السير وليم جونز في شعراء فارس والصين والهند وضروب تصانيفه في هَذَا الباب الشرقي
الفضي الذي كان فيه من أعمدة أستاذية شارلس لامان وجيمز وورد
Charles Lamman and James Wood
أستاذي السنسكريتية والفلسفة
الهندية بهارفارد بلا ريب. وهل تظن أيها القارئ الكريم أنه إذا دعا واجب الدرس
إليوت الطالب المعد للدكتواره أن يتحير ويستنير بشعر السنسكريتيه - وهو أمر أقر
بمعرفته وأدعي تذوقه وسكونتالة جزء منه ومعرفة ترجمتها متممة لتذوقه - هل تظن أنه
إذا اطلع على ذلك وعلى ما ترجم من أدب الفرس وكان إليه مائلا ولوليم جونز فيه من
العمل ما قد قدمنا ذكره مع اختياراته من شعراء الشرق ومن بينهم حافظ الشيرازي .....
هل تظن أنه إذا فعل ذلك سيتجاهل كتاب وليم جونز الخفيف اللطيف الوافي الذي
ترجم فيه المعلقات ؟ هَذَا مَعَ العلم بأنّ السير وليم جونز قد نبه في رسالتيه
الفرنسية والإنجليزية عن مكان شعر المعلقات الرفيع ؟
إن مكتبات الأقسام الشرقية في جامعات أوربا كثيرًا ما تكون في موضع واحد ،
وكثيرا ما تقع بين طلبة لغات الشرق الذين يختلفون إليها ضروب من التعارف وتبادل
الآراء ويكونون أشبه بقبيلة فكرية واحدة ، فيشتاق من يقرأ الهندية مثلا أن يقرأ
لمستشرق مشهور كتب في آداب الفارسية أو التركية أو العربية مثلا أو كتب في باب من
أبواب الأدب المحض ذي الطابع الشرقي القوي كالسير شارلس دواتي Sir Charles Doughty في كتابه
Arabia Deserta أي (الصحراء
العربية ) ، ورديارد كبلنج Rudyard Kipling في
قصته Kim (كم) وغيرها وأشعارها وكان إليوت»
به معجبا وقد عاصره ولعله لقيه وكان يقال له شاعر الإمبراطوريه الكبير ووصفه
إليوت» بأنه كان من كتاب التراتيل الدينية العظام فيما ذكره روبسون (ص) (۱۷) a great human writer . وكان للمدرسة الهندية البريطانية في المكتبة الشرقية
مكان مرموق وقد قدمنا ذكر السير وليم جونز وكان فيها بمنزلة المؤسس وممن كان ينتمى
إليها من كبار المستشرقين السير شارلس ليال صاحب ترجمة المختارات التي من ذكرها
ومن بينها شيء من المعلقات ( زهير وامرؤ القيس ) وصاحب ترجمة المفضليات والشرح
والتعليق الوافي ( إكسفورد ۱۹۱۸م) وراجع للمزيد في هذا الصدد تاريخ كمبردج الصغير للأدب
الإنجليزي الذي مر ذكره في الفصل الذي جعله للأدب الهندي الإنجليزي
من ص ٧٣٤ إلى ص ٧٤٤. وقد نشر
مكارتني على زمان إليوت شعر ذي الرمة ، ولعله لقيه ، وقد تُرْجَمَتْ بائية ذي
الرمة من قبل . وقد ترجمت المعلقات بالفرنسية وبانت سعاد وترجم بالألمانية شعر
عربي كثير وكان «إليوت» بالفرنسية والألمانية وغيرها عالماً وقد درس بألمانيا كما
درس بباريس.
إذا صح ما قدمناه من تعارف أسرة من يعرفون اللغات الشرقية وتقارب أسباب قبيلتهم فكيف يكون الأمر إذا كان أحد هؤلاء
أديبًا شاعرًا طموحا موسوعيًا ذا مقدرة ودهاء مثل إليوت وأصاب ضالة ناردة في
موسوعي نارد مثل وليم جونز الذي لما وصل إلى الهند كان مستشرقا ناضجا وزاد فيها
نضجا وفتح الطريق لمن بعده؟
على أن الاستشراق في زمان «إليوت» في هَذَا القرن الميلادي العشرين إلى
قريب من اواسطه قد صارت تغْلُب عليه سمة التخصص مكان الموسوعية فإذا أخذ «إليوت»
مثلا من الأدب العربي وهو غير معروف بأنه درس لغة العرب وآدابها ولكن معروف بأن درسه
إنما كان للغة الهند القديمة، فمن سيفطن إلى أنه أخذ من الأدب العربي القديم ثم يتهمه
بناء على ذلك بالسّرقة من أدب العرب؟
بعيد جدا أن يتنبه أحد إلى أن السير وليم جونز صاحب ترجمة السكونتالة أو الشاكونتالة
Shakuntala) ) تاریخ كمبردج (۷۳۵) والمختارات من أشعار فارس والهند والصين
هو أيضا قد كَانَ طريقا سريا خفيًا سلكه إليوت» إلى النظر أو الأخذ أو الاختلاس أو
السرقة من أسلوب المعلّقات وشكل صياغتها ومعانيها وكتمان ذلك وإخفائه كل الإخفاء
وحذفه كل الحذف كما قد حذف كلمة ( العربية Arabian) وإشارته إلى
وليم وردزورث وكلمة ( جزيرة العرب (Arabia) وإشارته إلى –
والتردي لامير . نعود بعد هذه الفذلكة إلى ما كنا فيه من تتبع أسطار منظومة إليوت.
أوّل ما ذكره «إليوت» من شواهد قساوة أبريل لنباته زهرة ليلى وهي
التي يقال لها في الإنجليزية ( ليلاك lilac) ونقل برغونزي
( ص ٥) أن الليلاك كان كثيرًا في سياجات هارفاد النباتية كأنه يشرح بذلك وروده في
شعره. وذكر إليوت هذه الزهرة الشرقية الإسلامية المعدن في سياقه الذي يقرنها فيه
بالذكرى والجنس عجب : راجع قوله :
…, breeding
lilacs out of the dead land, mixing
memory and desire,….
والترجمة : منبتا
زهرة ليلى من الأرض الميتة ، مازجا الذكرى بالشهوة .
إذ قد كان أشبه بأساليب لغته وحضارته لو قد ذكر الورد وكان من ضروب نواوير أوربا
وبريطانيا وأمريكا - أم ليت شعري هل فر من رومانتيكية الورد وما بمجراه؟ في معجم
أكسفورد في تخريج كلمة ( ليلاك Lilac) إن أصلها من (
ليلك ) العربية ولا وجود لهذا اللفظ
( ليلاك أو ليلك ) في العربية استما لهذه الزهرة ، وأصل هذا التخريج من
المستشرق ر. دوزی R. Dozy ( راجع المجلد الثاني ص ٥٦٢ من
معجمه طبعة باريس ولندن ۱۹۷۲ واسم المعجم يدل على أنه تكملة وملحق للمعاجم العربية :
Supplement aux Dictionaries Arabs
ظن دوزي أن النيلج بكسر النون هو الليلاك lilac
مَعَ أنه كان يعلم أن النيلج هو النيلة الزرقاء. وذكر الفيروز أبادي
(النيل) بلا تاء في آخرها في مادة ( وسم ) في تفسير لفظ الوسمة بفتح الواو وكسر
السين أو سكونها ميم مفتوحة فهاء التأنيث قال الفيروز أبادي : ورق النيل أو نبات
يخضب بورقه وأحسب أن الشك جاء الفيروزابادي من أن لفظ العظلم الوارد في شعر عنترة
يستخرج منه صبغ أسود أو النيلة وقيل : هو صبغ أحمر وبيت عنترة هو قوله في معلقته :
عهدي به مد النهار كأنها صبغ البنان ورأسة بالعظلم
وذكر الفيروزابادي ( النيلج ) بكسر النون في مادة ( نلته ) وذكر طريقة
استخراج ( النيلج ) بمعنى ( النيلة ) من العظلم .
جاء هنا بالنيلة مقرونة بالتاء المتحركة علامة التانيث وفي شرحه لكلمة ( الوسمة (
ذكر النيل مثل اسم نهر النيل بلا تاء التأنيث. وكلمة ( النيلج) بكسر النون غير
عربية الأصل ولكن معربة مثل فالوذج ولوزينج وهلم جرا , ومعنى النيلج
كما تقدم النبات الذي تستخرج منه النيلة الزرقاء. واضطرب شراح بيت عنترة واكتفي السير وليم جونز
برسم لفظ العظلم نفسه بالحرف اللاتيني من دون ترجمة له ، هكذا (idhlim) والراجح عندي أن عنترة أراد الزرقة لا الحمرة يكني بذلك
عن الموت وذهاب حمرة دم الحياة. وقد نقل عن الأزهري أنه اختضب بالعظلم يسود به
شعره فهذا يقوى ما ذكره الفيروزابادي وعليه تفسير التبريزي في شرحه أن العظلم هو
الوسمة ولم يزد على ذلك. عنى عنترة أن عهده به ، وقد قتله، وقد صار لون رأسه كله ، والوجه من الرأس، ولن
أصابعه أزرق هامد أبعد أن كان كل ذلك مشرقا ناضرا بالحياة. ولا يخلو عنترة في قوله
هَذَا من بعض التعريض الساخر المر، كأن يقال مثلاً: « صار المسكين أسود مثلي أنا
العبد بعد أن كَانَ حُرًا أبيض » :
قال تعالى : وَتَحْشُرُ
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) [ طه : ٢٠] ، والله تعالى اعلم.
ليس ( النيلج ) بكسر النون هو الليلاك lilac
هو زهرة ليلى الفارسية وقد يقال له في عربية اليوم زهر البنفسج وليس كله بنفسجيا
ولكن منه ذو اللون البنفسجي وذو اللون الأبيض.
وفي معجم أكسفورد ومعجم ويستر أن الشبه المتوهم بين اللون الأرزق واللون
البنفسجي هو مما جعل اسم ( ليلاك lilac ) يطلق على
الزهرة المسماة باسمه اشتقاقا من كلمة النيلج الدالة على اللون الأزرق وهذا أصله
من دوزي وهو بعيد وليس بشيء. وفي معجم لاروس الفرنسي أن أصل " الليلاك "
من بلاد الشرق الأوسط وأنه يزرع من أجل نواويره البيض والبنفسجيات وذكر لاروس أنه
من أسرة olecees ( أولياسيه) التي
منها الياسمين والزيتون. ويظهر أن
هذه الكلمة الفرنسية olecees (أولياسيه) نفسها قد حرفت من
الفارسية ( جل ياس) تنطقها كالجيم المصرية بين الكاف والقاف وتكتب بالكاف المعقودة
( كل ياس) . على أن أصل olecees لاتيني في
مدلولها العام .
و ( جل ياس) أصلها من ( جل ليلى ) أو ( كل ليلى ) أي وردة ليلى أو زهرة
ليلى ثم
شبهوها بالياسمين فقالوا : ( جل ياس ) أو ( كل ياس ) بالكاف المعقودة كما
ذكرنا من
قبل.
ونبئت أن ( جل) بالجيم التي كالكاف معناها بالفارسية الورد وهي أصل الجل
بفتح الجيم وضمها الواردة في شعر الأعشى:
وشاهدنا الجل والياسمون والمسمعات بقصاتها
قال الفيروزابادي : وبالضم ويفتح الياسمين والورد أبيضه وأحمره وأصفره ومن (جل ياس) أخذت كلمة oleacees الفرنسية ومنها أخذت الكلمة الدالة على هَذَا الزهر في الفرنسية
الآن وهي : ليلا بكسر اللازم بعدها ياء فلام ألف ( Lilas
) راجع لاروس الكبير طبعه ۱۹۱۵ م المجلد ٤ ص ٣٠٥٣ والمجلد ٥ ص ٣٧٦٠. وراجع أيضًا المعجم
الفارسي المتوسط لمحمد معين طبعة طهران ۱۹۷۵ ص ٥٢٤٣ في المجلد الرابع
وقد اطلعت عليه واستعنت بمن يعرف الفارسية ومنه أفدت ما تقدم وذكر كلمة (
ليلك)
وهي ذات مدلول مختلف في المجلد ٣ في ص ٣٦٧٠.
وقد ذكر لين Lane في معجمه العربي الإنجليزي أن الجل من أصل فارسي وأصاب
(طبعة بيروت المصورة ۱۹۸۰ م ٢ ص ٤٣٧ ) والعجب لبادجر Badger في معجمه
العربي الإنجليزي تصوير بيروت ۱۹۸۰ م (ص ٥٧٦ ) إذ ترجم : ( ليلاك (lilac
بـ (لعلى)
وهي لفظ لا وجود له.
هذا ، وبعد أن انتهى إليوت من نعت قساوة إبريل منبتاً زهرة ليلى ، مازجا
الذكرى بالشهوة
انتقل إلى ذكر الصيف وذلك قوله :
ومعناها : فاجأنا الصيف
تأمل شدة الشبه بين قول لبيد:
رزقت مرابيع النجوم ... ( البيت )
فعلا فروع الأيهقان ... ( البيت)
Summer surprised us….
وبين قول إليوت جاء الربيع منبتا زهرة ليلى ... إلخ . تأمل الشبه في السياق
والصياغة بين قول لبيد ( فعلا فروع الأيهقان بعد ذكره مطر الربيع وبين قول إليوت
منبتا زهرة ليلى ( الليلاك ) بعد نعته مطر الربيع الذي أبريل رمز له.. منبتا زهرة
ليلى.. أي فعلت أغصان ( الليلاك) كما علت فروع أيهقان لبيد الأيهقان عربي و
الليلك» فارسي ، محاكاة نهج لبيد الذي أطلع عليه في ترجمة وليم جونز لا تخفى.
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت با الجلهتين ظباؤها ونعامها
جاءت الظباء والنعام في مكان الحبيبة والظبية تشبه بها الحبيبة. ههنا مجال
للذكريات واتصال معنى ولادة الظباء أطفالها وأفراخ النعام بالشهوة غير خاف ، ومن
هنا أخذ إليوت مزجه الذكرى بالشهوة. ثم انتقل من بعد إلى ذكر الصيف وذلك قوله :
ومعناها : فاجأنا الصيف
Summer surprised us…
ثم انتقل بعد مفاجأة الصيف له إلى ذكر ( محبوبة ) التجأ معها من مفاجأة مطر الصيف إلى بناء ذي صف
من أعمدة ثم خرجا إلى ضوء الشمس ثم إلى الحديقة.
ولبيد بن ربيعة العامري صاحب المعلقة يخرج من نعت القفر إلى مرابيع النجوم
أو كما قال السير وليم جونز في ترجمته :
...profuse, as well as
gentle showers
ثم يخرج من ذلك إلى إنبات الأيهقان، وهو من نبات البادية قيل هو الجرجير
البري الذي علت فروعه ، ثم إلى الوحش الذي خلف الأحباب على الديار وجعل بحيوية الربيع
يطفل ويفرخ. ثم يتذكر لبيد الحبيبة ويقسو عليها وعلى نفسه حين يعتلج في صدره أمر
انصرام عهودها و تبدد زمان وصلها :
بل ما تذكر من نوار وقد نأت وتقطعت أسبابها ورمامها
يقول السير وليم جونز في مقدمته لقصيدة لبيد : إن أبياتها الخمسة عشر
الأولى من روائع التصوير، يعذل الشاعر في آخرها نفسه على هواه الضائع سدى عند
امرأة لا تستجيب ، فيدعوه ذلك إلى أن يفر من الهوى إلى الراحلة ، ثم يعود إلى ذكر
محبوبته نوار بعد نعت الرحلة برجوع فيه نوع من قلة الاهتمام بدلا لها . هذا ملخص
كلام السير وليم جونز في مقدمته. ا. هـ
ليت شعري هل مجرد توافق خواطر شبه :
١ - قول «إليوت في عنوانه The Waste Land يقول لبيد (
عفت الديار ... إلخ ) .
٢- وقول «إليوت» في عنوانه The Burial of the
Dead
بطريقة الشعراء العرب ومنهم لبيد بان الديار تندفن وتكشف آثارها الرياح والسيول (
عرى رسمها ) و (جلا السيول عن الطلول).
- وذكر «إليوت أمطار إبريل وقساوته وشبه ذلك بقول لبيد ( رزقت مرابيع النجوم
... إلخ).
٤ - وقول «إليوت» بإنبات زهور ليلى Lilacs وخلط الذكريات
بالشهوات وشبه ذلك كما قدمنا بقول لبيد : فعلا فروع الأيهقان إلخ».
ه - وانصراف «إليوت» عن مطر الربيع إلى مطر الصيف حيث قال : «فاجأنا الصيف
- هل هَذَا أيضًا مجرد توافق خواطر ؟
٦ - وتذكر إليوت للحبيبة بعد إذ ساقاها القهوة وتقطعت أسبابها ورمامها ..
راجع
الأسطر ۸-۹-۱۰-۱۱-۱۲)... . هل هذا أيضًا مجرد توافق خواطر ؟
وقد ركب لبيد ناقته بعد تصرم أسباب نوار وشبهها بحمار وحشي وذكر الصيف وحره
...
أي : أعاصيرها وسمائمها.
.........و تهيجت ريح
المصايف سمومها وسهامها
أم هل مجرد توافق خواطر قول «إليوت في س ۲۳ ص ۲۷.
And the dead tree gives no shelter
أي : والشجرة الميتة لا تعطي مأوى.
مع شدة شبهه بقول لبيد في وصفه للبقر الوحشية التي أصابت السباع ولدها.
وأحاطت بها المخاوف بعد ترددها تبحث عنه وتناديه بنوح وبغام ، ولفتها بين
الرمال ليلة ذات برق ومطر وأهوال :
تجتاف أصلا قالصا متنبذا بعجوب
أنقاء يميل هيامها
أي : تلتمس بقرنيها جوف أصل شجرة قديم في قعر كثبان من الرمل منهالة ،
وترجمة وليم جونز:
She shelters herself under the root of a tree
- أم ليت شعري - بعد الذي لم نشك فيه من كتمان إليوت» مصادر أخذه من العربية
- هل مجرد توافق خواطر ذكر إليوت المفاجأة الصيف :
وأن الشتاء أدفأنا \ يمدح بذلك الشتاء ؟
Summer surprised us…
Winter Kept us warm…
هل أطلع إليوت على ترجمة ما لبعض شعر أبي تمام ، فقد عاش في زمان كان فيه الاستشراق
العربي بين أكسفورد وكمبردج ولندن وباريس وألمانيا ضاربا بجران وكان لأبي تمام
صاحب الحماسة في ذلك مكان مرموق - قَالَ عنه ليال في مقدمة اختياراته :
….I.....and was
himself a distinguished poet
أي وكان هو نفسه شاعرًا ممتازا
هل أطلع إليوت على ترجمة لقصيدة أبي تمام في وصف الربيع التي أولها:
رقت وجوه الدهر فهي تمرمر وغدا
الثرى في حليه يتكسر ؟
وفيها قوله:
جاءت مقدمة الصيف حميدة
summer surprise us \ Winter kept us warm
أو فاجأنا الصيف ... ويد الشتاء جديدة لا تنكر
شكرا للشتاء...
لولا الذي صاغ الشتاء بكفه قاسي
المصيف هشائما لا تثمر
شكرًا للشتاء - ولأبي تمام الذي مدح الشتاء خلافًا للشعراء الذين كانوا
يذمونه كقول الآخر:
إذا غبر آفاق السماء... إلخ
تأثر إليوت بالمعلقات
لقد أفاد إليوت من الشعر العربي إما من قراءة تراجم لَهُ وإما من مشافهة
معاصرين له عارفين به. وقد أفاد من إطلاعه
على ترجمة السير وليم جونز لا لمعلقة لبيد وحدها ولكن لسائر المعلقات ، خذ مثلا
الأسطر ١٩ - ٢٤ من ص ۲۷ وهي أولي صفحات المنظومة في الطبعة التي رجعنا إليها:
What are the roots that clutch
What branches grow
Out of this stony rubbish?
Son of man,
You cannot say, or guess.
For you know only
A heap of broken images,
Where the sun beats,
And the dead tree gives no
Shelter, the cricket no relief,
And the dry stone no sound of water…
الترجمة على وجه التقريب :
ما الجذور التي تمسك ؟ ما الأغضان التي تنمو
من هذه القمامة الحجرية ؟ يا بن آدم
إنك لا تستطيع أن تقول بيقين أو ظن لأنك إنما تعلم
كومة من ظلال متكسرة ، حيث الشمس تصك
وحيث الشجرة الميتة لا تعطي مأوى ، ولا الصرصور راحة
ولا الحجر اليابس صوت ماء.....
أحالنا إليوت على سفر حزقيل أوّل الإصحاح الثاني بالنسبة إلى سطره ( الثاني
أعلاه ) 20
ليؤكد أن مراده من قوله ( Son of man : أى يا ابن
آدم أو يأتها الإنسان ) هو معناها الذي في العهد القديم لا معنى ابن الإنسان »
الذي عند النصارى . ولا شيء يمنع ملابسة
هذا المعني المسيحي لكلامه هو لأنه هو مسيحي الديانة لن يخلو منه بحال من القصد
إليه وليس تأكيده الذي زعم بملزم استبعاده أحدا.
وهذه الإحالة لما هو ظاهر من عدم الحاجة إليها لا تخلو من تعمية ما وتضليل.
وكاد السارق يقول خذوني مرات . ذلك بأنه في سفر حزقيل في الإصحاح نفسه بعد رقم (۱) الذي فيه son of man ورد في رقم ۲ ، ۳ ، ٤ ذكر تمرد بني إسرائيل وقسوة قلوبهم ، وهذا وارد في
قول «إليوت متضامنا المعناه في :
And the dry stone no sound of water
أي : « ولا الحجر اليابس صوت ماء » أبو القلوب قاسية كهذا الحجر اليابس. لكن
هَذَا التشبيه وهذه العبارة نفسها لم ترد بهذا اللفظ وهذا البيان التصويري في سفر حزقيل
الذي أحالنا عليه تعمية وتضليلا فيما نرجح ، إذ لا ريب أنه أخذها من القرءان - وتراجمه
كثيرات - لأنها بعينها واردة في خبر تمرد بني إسرائيل :
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ
بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ﴾ [البقرة : ٧٤] . ولكن هل يعقل في «إليوت» الكتوم
لذكر وردزورث ودي لامير وظلال جزيرة العرب The Shades
of Arabia
وما أشبه أن يخطئ فيحيلنا على القرءان؟ أليس ذكره سفر حزقيل في إحالاته ههنا شبيها
في طريقة
الاستبدال بما صنعه من جعل جدران كنيسة ماغنس مارتر في مكان ظلال جزيرة
العرب؟
وبالنسبة إلى الأسطر ١٩ - ٢٤ ) انظر ما تقدم ( أحالنا إليوت» في تعلقيقاته
على السطر ٢٣ وهو الخامس في ما ذكرنا لننظر في سفر ( الجامعة ) من العهد القديم
وهو الذي يقال له
( الواعظ ) أو The Preacher بالانجليزية
وأيضا يقال له Ecckesiastes رقم ٥ من الإصحاح ۱۲ من أجل توضيح مراده من الكلمة Cricket أي الصرصور الواردة في النص
المتقدم . وكلمة cricket أي الصرصور غير واردة في نص سفر
الجامعة ابن داود والذي أحالنا عليه ولكن وردت كلمة grasshopper أي الجندب وإنما أحالنا إليوت» على سفر الجامعة
تعمية وتضليلا .
وقد وجدت من نقاد إليوت» البروفسور روبسون يقول بمثل ما نقول به من عمده إلى
التعمية في تعليقاته إذ ذكر بمعرض حديثه عن الأرض المقفرة في كتابه عن الأدب الإنجليزي
الحديث وسبقت الإشارة إليه في ص ۱۱۲ ، إن «إليوت» أضاف تعليقات أحيانا هي
غامضة غموض الأسطار التي يراد بها شرحها:
.. Later Eliot added
notes sometimes as cryptic as they
purport to elucidate...
ومن تعليقات إليوت المضللة ، والشّيء بالشيء يذكر، نورد ذلك على سبيل
المثال ، أحالته بالنسبة إلى سطره رقم ٦٣ على جحيم دانتي وإنّما خطف خطفا من
مسرحية ما كبيث لشكسبير من قول مشهور وهو مقال امرأة ماكبيث في الفصل الخامس في
حديث هذيانها : « من كان يظن أنّ هَذَا الرّجل العجوز دمه كثير هكذا ؟ » ويجوز أن
يكون شكسبير رمق دانتي وأخذ من هناك وأنّ «إليوت» نظر إلى دانتي كما نظر إلى
شكسبير إلا أنه حذا على صياغة هَذَا ونحو ما يجرى هذا المجرى هو ما سماه أبو تمام
السرق ( بفتح السين والراء) المورى بضم الميم وفتح الواو وراء مشددة مفتوحة بعدها
ألف لينة – قَالَ يمدح شعره:
إليك بعثت أبكار القوافي يليها سائق عجل وحادي
شداد الأسر سالمة النواحي من الأقواء فيها والسناد
منزهة عن السرق المورى مكرمة عن المعني المعاد
الأقواء والسناد من عيوب القافية كما لا يخفى
وقد أحكم نقاد العرب باب السرقات إحكاما وأبوابا غيره من النقد كثيرات.
هذا والصرصور cricket شيء غير الجندب grasshopper و ظاهر مراد إليوت» في احالته على سفر «الجامعة » أن
يشعر القارئ مثلا بأنه استبدل كلمة – grass-hopper
أي الجندب بكلمة cricket أي صرصور لداع دقيق من دواعي
البيان والصناعة الشعرية . هنا مكان التعمية والتضليل والغموض وليس بين النص
الوارد في سفر الجامعة والذي وردت فيه
كلمة الجندب grasshopper أدنى صلة معنوية بكلام «إليوت» في
الأسطر ٢٢-٢٣:
...where the sun beats
And the dead tree gives no shelter, the cricket no relief
أي... حيث تَصُلُّ الشمس .
وحيث الشجرة الميتة لا تعطي مأوى ، ولا الصرصور راحة ، ونص كلام الجامعة الذي
ورد فيه ذكر الجندب كما يلي ) دار الكتاب المقدس ، العهد القديم ).
وأيضًا يخافون من العالي ، وفي الطريق أهوال ، واللوز يزهر ، والجندب يستثقل
، والشهوة تبطل ، لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي والنادبون يطوفون في السوق .
ا. هـ .
Also when they shall be afraid of that which is high, and
fears shall be in the way, and the almond tree shall flourish,
and the grass-hopper shall be in the burden, and desire shall
fail: because man goeth of his long home, and the mourners
go about the streets.
(Ecclesiastes
Chapter 5- 12)
مجمل المعني أنه في زمن اكتساء شجرة اللوز بأزهاره البيض الحسان وهو زمن
الربيع حين تزداد الحيوية والنشاط وتدب في النفوس ، في هَذَا الزمن حين يقترب
الموت من الإنسان تذهب لاقترابه كل حيوية وكل روح ونشاط حتى أن الجندب الصغير
الجسم الخفيف الوزن ليستثقل المرء وزنه ثم يحمل المرء إلى القبر ويطوف نادبوه
ينوحون.
اليوت لا يشير إلى الحيز الذي يستثقل فيه الإنسان وزن حشرة صغيرة لأن الموت
الذي اقترب منه يجعل كل شيء ثقيلا ، فلماذا يحيلنا على سفر الجامعة ابن داود ؟ نعم
، الصناعة الشعرية - صناعة ( الشرق المورى ، ورحم الله أبا تمام - هي التي دفعت
إليوت» إلى استعمال cricket أي الصرصور مكان grasshopper أي الجندب في نص الكتاب المقدس في العهد القديم فذلك
أدعي له لأن يذكرها لا أن يتفاداها ، ولكن لأن الجندب في شعر العرب ومن هناك أخذها
. الجندب حشرة نهارية والصرصور حشرة ليلية تاوي إلى مواقد البيوت ذوات المواقد )
في أوربا مثلا ( نهارا لظلامها ودفئها ولا تنفك تصرصر
. gives no relief... ولا تكف
وكلا الجندب والصرصور حشرة مصوتة وثابة Jumping Chirping كما يقول
المعجم الإنجليزي ، ومراد «إليوت واضح وهو استمرار الصرصور يصيح بلا انقطاع
.
والضرورة الشعرية التي دعته إلى ذكر الصرصور مكان الجندب cricket ) مكان
( grass hopper هو أنه ذكر الشمس وحراراتها وذلك
قوله
where the sun beat أي حيث
الشمس تصك .
وليس الصرصور cricket بأخى الشمس ولا موقده الذي يأوى
إليه نهارا وهو مظلم دافي ، بوهج الشمس الملتهب الذي تتكسر منه أكوام الظلال.
أخذ «إليوت» فكرة الصرصور لا من سفر الجامعة ابن داود ولكن من
جندب أشعار العرب. حشرة سفر الجامعة ابن داود خفيفة الوزن وثابتة بين أزهار
اللوز، لا مزعجة صاخبة في حر الهجير حيث تصك الشمس وتتكسر الظلال. قَالَ كعب بن
زهير في بانت سعاد وهي مما ترجم:
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ورق
الجنادب يركضن الحصى قيلوا
جعلت الجنادب تركض الحصى بحثًا عن
الظل ، عندئذ قال الحادي للركب الآن وجب المقيل.
وقال ذو الرمة ، ونشر ديوانه بكمبردج سنة ۱۹۱۹ م وترجمت بائيته من قبل ، ولعل إليوت
أن يكون قد لقى مكارتني الذي حقق الديوان ، وقد نبه شارلس ليال على منزلة ذي
الرمة في ذيل ص XXXIIIمن مقدمة مختاراته قائلا :
Dhu- r-rummah was the last really great representative of
desert song… (Translations of Ancient Arabian poetry)
أي كَانَ ذو الرمة حقا آخر شعراء الصحراء العظام - أو آخر ممثل لعظام
المتغنيين بالصحراء قلت وفي هَذَا نظر وأبو عمرو بن العلاء عندنا أصح بصرا بالشعر
من شارلس ليال على حسن اجتهاده ورأيه في ذى الرّمة معروف إذ جعله شاعرًا من
المحدثين وهو في الحقيقة لهم رائد ، وما
نشك أن «إليوت أطلع على ترجمة ليال في اختياراته ومقدمتها وأفاد من ذلك في معرفة
طريقة نظم الشعر العربي ، في زمان كان فيه شعراء أوربا والإنجليز خاصة يريدون
التجديد ويطلبونه من طريق الأخذ عن أمم الشرق أشد طلب.
وقد ذكرنا من قبل أن شارلس ليال نشر اختياراته سنه ۱۸۸۵ م وكان موظفا بالهند ومن قبل سبق له
نشر بعضها في مجلة بنغال ثم إنه فس سنة ۱۹۱۸ م نشر ترجمته للمفضليات مع
تعليقاته الناضجة النفيسة وقد حقق شرح ابن الأنباري للمفضليات كما هو معروف
.
وسنعرض إن شاء الله من بعد لما نرى أن «إليوت أخذ من ليال في المقدمة التي
ذكرناها.
قال ذو الرمة يصف الجندب :
معروريا رمض الرضراض يركضة والشمش حيرى لها بالجو تدويم
البيت مشهور وقيل فيه أنه أكثر رمضا من رمال يبرين لتكراره الراء والضاد وهذا
يسمى الآن الجناس الداخلى وهو فن في العربية قديم . وبيت ذي الرمة هذا يحتوي على معني
ظلال «إليوت» المتكسرة وشمسه التي تصك :
Where the Sun beats
(where the sun beats , / And the dead tree gives no shelter , the
cricket no relief ) ---- the waste land
والشمس حيرى لها بالجو تدويم
وتأمل ( رمض الرّضراض ) مَعَ قوله ( يركضه ) لأن الجندب يطلب المأوى في
بقية الظل المتكسر في رمض الرضراض.
وأخذ ذو الرمة من كعب بن زهير قوله : يركضه لأنها من قول كعب:
........وقد جعلت ورق
الجنادب يركضن الحصى
و من كليهما أفاد من أفاد
هذا وفي قول «إليوت» :
......for you
know only
A heap of broken images
أي : إنما تعلم - كومة من ظلال متكسرة
.....
فيه نوع من السخرية بأساليب الشعراء إذ كلمة image
كما تدل على الظل تدل أيضًا على الصورة البيانية من تشبيه واستعارة وما أشبه وفيه
صدى من وردزورث ودي لامير كليهما وتأثر بمقدمة وليم جونز المعلقة لبيد حيث ذكر
أوصافه وتشبيهاته وزعم أنها مثل التشبيهات الطويلة التي ترد في الشعر الكلاسيكي (
أي اليوناني واللاتيني).
هذا ، وزيادة على ما تقدم ، واعتماد على ما هو نازل عندنا منزلة الدليل
القاطع من قوة الملابسات التي تشهد باطلاع إليوت» على عمل السير وليم جونز ،
وطريقته في الإخفاء
والكتمان نرجح أن «إليوت» أطلع على كثير مما ترجم من أدب العرب وعلى ما
كتبه كبار المستشرقين بالإنجليزية ، على أقل تقدير وعلى ما كتبه السير شارلس ليال
مما يدل على فهم عميق لطريقة الوحدة والانسجام عند شعراء العرب القدماء مثلا
تعليقه على بائية سلامة بن جندل ولامية بشامة بن الغدير وعينية سويد بن أبي كاهل
وطويلتي علقمة بن عبدة ، ومما يحسن ذكره ههنا أن بعض من كتبوا عن شعراء المفضليات
من فضلائنا أخذوا عنه ولم يشيروا إليه ومنهم من تابعه أخذا غير معترف في الخطأ وفي
الصواب وهذا باب ربما اتيح لنا بعض تفصيله في موضع غير هذا مما يناسبه. وإنما دعا
إليه أن الشيء بالشيء يذكر ، وكما يقول سيبويه ، رب شيء كهذا.
ولا شك أن «إليوت» قد اطلع على شيء من مقدمة ليال
المختاراته ( طبعة ١٨٨٥ م ) إذ كان ذا استشراق ومن عصبة نجباء الحكومة البريطانية
بالهند إحدى مراكز البحر الشرقي الكبرى وقد وصف ليال القصيدة العربية القديمة بأن
شكلها لا يمكن أن يوصف بما عليه أوصاف الأشكال في شعر أوروبا وأنه عسى أن يكون أرب
الأمور به شبها ما كَانَ اليونان يسمونه بالقطعة الوصفية أو الإخبارية iayll
وأنّها تعرض علينا صورا متتابعة ماخوذة اخذا مباشرة من التجارب والواقع مصوعة
بمهارة وأحكام يربط بينها عنصر من الوحدة التي لا تبدو وثيقة واضحة ولكن تخضع لروح
من الشاعر يهيمن عليها بكشف ما يشتمل عليه ضمير شيئًا بعد شيء ( راجع ص xvlIl
) . translation of ancient Arabian poetry
مما أخذه إليوت» من المعلقات سوى الذي ألمعنا إليه من محاكاة لبيد أنه حاكي
طريقة النظم فيها ونظر في ذلك نظرًا شديدًا إلى المعلقة الأولى ، التي ينبغي أن
يكون حين بدأ بالقراءة قد بدأ بها.
عول «إليوت» في نظم أرضه القفر على اتباع طريقة صياغة امرئ القيس حيث بني تأليف
لاميته المعلقة على وحدة مستمدة من الربط العاطفي الإيقاعي وتداعى المعاني المنبعثة
من حل عقد خيط الذكريات ( أو كشف ما اشتمل عليه ضميره شيئًا بعد شيء أو كما قال
شارلس ليال The Poet's unfolding of himself ص ( xvlll
من حل عقد خيط الذكريات عقدة بعد عقدة ، من الوقوف والاستيقاف إلى ذكر أم الرباب
وأم الحويرث - دارة جلجل - نحر الناقة - خدرة عنيزة - حديث الحب - حديث الجمال - الليل
- الصعلكة - الفروسية والصيد وزمان الشباب - ذكريات الطفولة - المطر والسيل وانمحى
كلّ شيء إلا منظر ثبير وصوت الطير - والسباع الغرقي - كل ذلك في تجاوب مذهل من
الإيقاع والصور وضروب الموسيقى الظاهرة والباطنة.
من حيث لا يحتسب يدلّنا إليوت» على أخذه من معلقة امرئ القيس في السطرين ٧
و
٨ من أرضه البلاقع أي المقفرة وقد مرا أوّل كلامنا ، واخترنا لفظ الأنابيش
في ترجمتنا
لقوله tubers لأنه الأصل الذي ترجح أنه أخذ منه
قوله:
أي :
……feeding
A little life with dried tubers
......مطعما حياة قليلة
بأنابيش جافة
ونشير ههنا إلى قول امرئ القيس في المعلقة:
كأن السباع فيه غرقى عشية بأرجائه
القصوى أنابيش عنصل
العنصل بضم العين وسكون النون وضم الصاد هو البصل البري والأنابيش ما ينبشه
الصبيان من عروق ونحو ذلك . التبريزي : " الأنابيش جماعات من العنصل
يجمعها الصبيان ويقال الأنابيش العنصل
والعنصل بصل بري .ا.هـ ) راجع شرح التبريزي للمعلقات العشر وطبعاته كثيرة ) .
وترجمة السير وليم جونز:
The beasts of the wood drowned in the floods of the
night, float like the roots of wild onions.
Like earth ostained roots of squills.
وراجع ترجمة ليال لهذا البيت في ص ١٠٤ حيث قَالَ :
الاصطلاح الإنجليزي لما ينمو من البنات كالبصل ينتفخ أصله الملامس بجذوره للتراب
ولما ينمو كالبطاطس بانتفاخ جزء الساق الملامس للتراب هو tuber
واستعمل «إليوت اللفظ الدال على النوع الثاني فيبدو أولا أن هَذا بعيد من أن يكون
مأخوذا من عبارة السير وليم جونز).
The roots of the wild onions
(أي عروق البصل البري ) التي ترجم بها ( أنابيش عنصل ) . وترجمة ليال غير
بعيدة من هذا . وأخذ إليوت» قوله المتقدم من ( أنابيش عنصل ) هذه. وقد أبت فكرة
صورة الجثث التي غرقت وبدت أطرافها من مثوارب وآذان وأذناب كأطراف أنابيش العنصل
أن تفارق إليوت» فنمت بنفسها في اسطاره ۷۰-۷۲ من ص ۲۹ وذلك قوله :
You who were with me in the ships at Mylae
That crops you planted last year in your garden,
Has begun to sprout? ( waste land)
أي:
يا أنت الذي كنت معي في سفينات ما يلبس ( يا من أنت أو يا
أيها الذي )
تلك الجنازة التي غرستها العام الماضي في حديقتك
هل بدأت تخرج شطئها؟
عنى إليوت بما يلبس هنا المكتشف الدنماركي ما يليس لدوج Mylius Ludwig
الذي غامر باكتشافه سواحل جرنلدة في أوائل هذا القرن الميلادي ، ومات سنة
١٩٠٧ بعد مغامرة أخيرة سنة ۱۹۰٦ وكانت هي من أسباب هلاكه .
استعمل «إليوت» صيغة المضاف إليه اللاتينية ( مايلاي) من ( مايليس). وهل
خفي
عنك أيها القارئ الكريم عنصر تداعي المعاني الشديدة بالنظرة إلى بيت امرئ
القيس ههنا ؟
امرئ القيس : غرقى جنائز سباع غرقى في العشية تشبه مناظرها في الأرجاء
القصوى
أطراف البصل البرى التي ينبشها الصبيان أو خرجوا لينبشوها .
إليوت : سفائن مايليس At Mylae) معها البحر
ومخاطره . جنازة مغروسة في حديقة في العام الماضي. هل نبتت وأخرجت شطئها مثل
النبات؟
هذه المشابهة في نهج الصياغة هل هي مجرد توافق خواطر مع بيت امرئ القيس،
كما مطر أبريل وعلو أغضان ( الليلك ) مجرد توافق خواطر مع مرابيع النجوم وعلت فروع
الأيهقان؟
وهل فكرة dried tubers) ) أي : الأصول النباتية الجافة أو
العروق الجافة ) مجرد توافق خواطر مع أنابيش العنصل ؟ العنصل هو (bulb)
بحسب الاصطلاح الآخر المقابل له (tuber) - أليس تحويل
( bulb ) إلى (tuber)
فيه لون من أسلوب تحويل
grass-hopper إلى (cricket) وما مر بك من
قبل من أمثلة «السَّرَقِ المُورَّى»؟
قولنا عن امريء القيس آنفًا : إنه تذكر الصبا وتذكر الطفولة نشير به إلى
قوله:
يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوى بأثواب العنيف المثقل
وإلى قوله :
كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل
وليس ههنا موضع التفصيل وقد كَانَ امرؤ القيس صاحب ذكريات وتذكر له أبيات
لطيفة يصف بها زحلوقة الأطفال أولها:
لمن زحلوقة زُل لها العينان تنهل
لاحظ أن تذكر الزحلوقة هنا أبكاه كما بكى من ذكرى الأحباب والمنازل.
وإلى قوله :
درير كحذروف الوليد أَمَرَّه تتابع
كفَّيْه بخيط مُوصل
هذا ، ومثل أبي تمام إذ فاجأته «مقدمة المصيف حميدة » نجد إليوت» فاجأته
مقدمة الصيف - ولكن غير حميدة ( إبريل أقسى الشهور). ومثل امرئ القيس خلص إليوت»
الذي هو امرؤ الأرض القفر من البدء بذكر الأطلال ( عفت الديار كما تقدم )
إلى حل العقد من خيط الذكريات - المقهى في أوّل المنظومة ( السطر (۱۱) إلى النعت المنظور فيه إلى سفينة
كليوباترا بعين ، ( س ۷۷ ص (۲۹) :
The chair she sat in, like a burnished throne,
Glowed on marble…..
أي: الكرسي الذي جلست عليه كَانَ يتوهج من فوق بلاط الرخام كأنه عرش
مجلو....
( راجع نعت أنو باربس السفينة كيلوباترة عند شكسبير ( ومنظور أيضًا فيه
بنفس ( العين)
أو بعين أخرى تحت الحاجب الكالح إلى قول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوع المسك منهما نسيم
الصبا جاءت بريا القرنفل
راجع من قوله س ٨٤ :
أي : قام بريق جواهرها.......
The glitter of her jewels rose….
إلى ....
Her strange synthetic perfumes
أي : عطورها المصنوعة الغريبة (س ۸۷ ص (۳۰) .
وقال وليم جونز في ترجمة هذا البيت:
When those two damsels departed, musk was diffuse from
their robes, as the eastern gab sheds the scent of clove- gilly
flowers...
لاحظ استعمال إليوت» profusion في س ٧٥ وكذلك proured في مقابلة
And shedsالتي عند وليم جونز= diffused
وتأمل ذلك أيها القارئ الكريم .
الفصل الذي فيه هَذَا النعت جعل إليوت» عنوانا له " لعبة الشطرنج :
A Game of chess وهو الفصل الثاني من الأرض
المقفرة والعنوان مأخوذ من اختيارات وليم جونز إذ عنوان إحدى القصائد الهندية التي
اختارها هناك هو هَذَا ، فتأمل !!!... راجع الحديث ، راجع قولنا قبل إلى النعت
المنظور فيه.. إلخ والآن.. إلى لقاء الكويتبة في الفصل الثالث الذي عنوانه ترتيلة
النار . أو كما قال :
A Fire Sermon
ونلفت نظرك ههنا إلى ما ذكر عن إليوت» أنه وصف ردیارد کبلن شاعر الإمبراطورية
الذي نشأ في الهند بأنه كَانَ من عظام أصحاب التراتيل...
لقى إليوت في منظومته الكويتبة في الفصل المذكور على مائدة فاترة ووصال من
نوع ما يقع في سأم المدن المعاصرة ... شيء ممسوخ من وليمة عذارى دارة جلجل ودخول
الخدر عنيزة : ( وقد ترجم ذلك السير وليم جونز ترجمة حسنة حية :
Woe to thee than wilt compel me to travel on foot
تقول لك الويلات إنك مرجلي
من هنا أخذ إليوت عبارته (ص (۳۲)
….caresses
which still un-reproved, if undesired
وتأمل بعد أسطاره من ٢٣٥ إلى ٢٤٨ في حديث عنيزته هو :
الترجمة التقريبية:
The time is now propitious as he guesses
The meal ended, she is bored and tired,
Endeavours to engage her in caresses
Which still un-reproved, if undesired
الوقت الآن موات كما يظن .
انتهت الوجبة وهي متعبة وسئمت .
يحاول أن يشركها معه في ملامسات.
استمرت بلا مؤاخذة أن لا بلاء اشتهاء.
كذلك من قبل ظن امرؤ القيس الوقت مواتيا بعد عقر الناقة وانتهاء الوليمة
وارتماء العذارى - يطبخن - بلحم مطيته ( يخطئ من يحسب أنهن كن يترامين بقطع اللحم كالغولات
وكأن اللحم كرات لعب ) وبشحم كهداب الدمسق المفتل الذي هو حريرهن وبياض أبشارهنّ
فدخل الخدر خدر عنيزة ليشركها معه في ملامسات ومداعبات فزجرته بقولها " لك
الويلات إنك مرجلي ، ومع زجرها له مال بهما الغبيط معا :
تقول وقد مال الغبيط بنا معا . عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
ولكنه لا ينزل :
فقلت لها سيرى وأرخي زمامه ولا
تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
كلام امرئ القيس فيه شيطنة وأريحية وحرارة عاطفة وصدق فني مباشر مع الزمان والبيان
الناصع . كلام إيوت مصقول كخشب النجار الماهر ولكنه ناشف لا عاطفة فيه ولا حرارة
ولكن مرارة برود تعال فكري وشيء من سخرية. غطاء كثيف يخفي حقيقة السرية ولو كانت
فيه أريحية من عواطف البيان أو الصدق الشعري لهتكته.
في كلام إليوت روح . سامة كسآمة الليل والبعير الذي شبه به امرؤ القيس
الليل لما تمطي بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل، وكسآمة الحبلى الذي ذكرها امرؤ
القيس فزعم أنه ألهاها عن طفلها ذي التمائم المحول.
إذا ما بكى من تحتها انصرفت له
بشق وتحتي شقها لم يحوّل
وقد استفحش النقاد هَذَا من مقال امرئ القيس وعذلوه عليه وعابوه وأبي الشعراء
من بعد إلا أن
يحاكوه فيه ويسرفوا كالذى صنعه سحيم عبد بني الحسحاس في يائيته (عميرة ودع
أن تجهزت غاديا ) وفيها :
توسدني كفا وتثني بمعصم على وتحنو
رجلها من ورائيا؟
وفيها وجدان وغرام وفتك وكالذى صنعه بشار في الرّائيتين ، المقيدة التي
يقول فيها:
أمتي بدد هذا العبي ووشاحي حله
حتى انتشر
والمطلقة التي يقول فيها:
قولي لها بقة لها ظفر إن كان
في البق ماله ظفر
وفي كلتيهما تهتك وزندقة ومجون
وهل نظر بعض شعرائنا المعاصرين إلى عنيزة امرئ القيس وإلى دعوى التحضر والتقدم
بالنظر إلى عنيزة وجبة طعام أرض إليوت المقفرة اليباب الخراب؟ هذا باب يكتفي فيه
بمجرد الإشارة واللمح.
ويبقى وزن إليوت. ومداره كما يذكر نقاده على محاكاة نبرات الكلام المألوف
وعلى الجناس الداخلي وعلى سجعات القوافي وهذا أمر خالف فيه أصحاب الشعر الحر الفرنسيين
ومن مال إلى مذاهبهم وقد تأثر فيما ذكروا بازرا باوند وقد سبقه في مذاهب من التظلم
جرارد مانلي هو بكنز ( ١٨٤٤ - ١٨٨٩م)
Gerard Manley Hopkins
ورجع «إليوت» في ما يذكر إلى نماذج من الشعر الإنجليزي القديم الذي يقال
لَهُ المتوسط مثل منظومة وليم لانجلاند (ولا
يكادون يستشهدون إلا بها ) التي أسماها بطرس الحراث William Lang Land ( ولد سنة ١٣٠٢ م وتوفي ١٤٠٠ م ) -
بطرس الحراث Piers Ploughman وعندي أن
الجناس الحرفي أو الداخلي ليس بأصيل في اللغة الإنجليزية على اتصاله بأوائلها
ولكنه أخذت أصوله من البديع العربي إذ هو قد كان النموذج الأدبي البراق المحتذى في
القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلادي فما بعدهما وقد كانت أمة العربية آنئذ هي
أمة المدنية الكبرى المرموقة في ذلك الزمان – تحاكى أساليب حياتها وآدابها كما
نفعل الآن بتقليد الإفرنج . ذكر صاحب الذخيرة نقلا عن المؤرخ أبي مروان ابن حيان
في صفة ريموند صاحب برشلونة ( ص ١٥٥ القسم ١ ج١) :
فإذا هو جالس على مرتبته عليه ثياب من ثياب المسلمين». ا.هـ .
أمر آخر ينبه إليه مما عسى أن يكون إليوت قد أخذه أيضًا من أساليب العربية
، هو مذهبه في غرابة التشبيه. ويوقف كثيرًا عن قوله في إحدى منظوماته :
Let us go then, you and I when the evening is spread out
against sky like a patient etherized upon a table.
أي :
دعنا إذن نذهب أنت وأنا .
عندما يكون الليل قد مدد بإزاء السماء .
مثل مريض بنج على منضدة ( العمليات).
ووصفه برغونزي بالجمال والغرابة ( ص ١٥) .
والحق أن تشبيه إليوت ههنا جار على ما يسميه البديعيون بالتشبيه المقلوب،
المريض ساعة الغيبوبة والامتداد على المنضدة هو المشبه بغروب الشمس إذ كمفاجأة
غشيان الظلام الأفق تكون مفاجأة غيبوبة المريض بالبنج .
من أمثلة التشبيه المقلوب المعروفة :
وبدا الصباح كان غرته وجه
الخليفة حين يمتدح
وما الأمر إلا أن وجه الخليفة المشرق بغرة الانشراح للمدح قد صار جسم مريض
ممدا على منضدة عملية . وغرة الصباح الباهرة صارت غروبا ... هل أخذ «إليوت» من
ههنا أم هو توارد خواطر ؟ لعله توارد خواطر ولكنه بلا ريب تشبيه مقلوب. صناعة
وبديع مصقول متكلف ولا أكثر ولا أقل
أشهد أن أوّل ما دعا إلى الشك في أصالة «إليوت في منظومته The Waste land
( الأرض المقفرة ) ما قدمته من
ارتياب النفس من تعليقات ومن حذف اسم العرب وأسماء من أشاروا إليهم ومن غلبة
البرود والتنطس على أسلوبه ومذهبه ومن الفتنة المفرطة به ولا سيما من ليست لغتهم
بلغته وفي لغته على أهل لغته هو الإنجليزية
عسر شديد . حتى المعجبون به ذكروا ذلك. مثلًا قَالَ انتوني بيرغس Anthony Burgess
في كتابه من الأدب الإنجليزي طبعة ۱۹۸۰ م وهو من المعجبين بإليوت أن منظومته
The
ومع أن تاريخ كمبردج للأدي الإنجليزي يعد إليوت من ثلاثة العصر في الشعر الإنجليزي
الكبار، مَعَ هَذَا عاب عليه كثرة أخذه من دون إشارة إلى موضوع الأخذ أو علامات تدل
عليه وقال : إنه كان يلزمه بيان ما أخذ وما استعار. وألمع تاريخ كمبردج إلى أنه إن
يك المراد من هذا الحنين إلى الماضى هو التعبير عن الضّجر عن العصر بأسلوب أدبي،
فإن ذلك غير خارج عن نطاق الأساليب التقليدية ، ونص عبارة تاريخ كمبردج هو كما يلي
وما قدمناه فحواها ومخلصها ( ص ٨٥٣) :
The Concise
But we may doubt whether the disgust with the realities of
the modern world, and the nostalgia for the past, not in its
own kind of disgusting reality but as abstracted in literature
and art, is anything more than a traditional literary device
كلمة صدق تقال للمفتونين بإليوت : إن كتمانه وسرقته ودينه للمعلقات وشعر العرب
من طريق مستشرقي الهند وفرنسا وألمانيا وهارفارد وجامعتي أكسفورد وكمبردج ومن يكون
لاقاة فيهما وفي غيرهما وشافهه، ينبغي أن يكون ذلك موضع زراية به ونفور عنه لا فرط
إعجاب به وإقبال عليه.
أسأل الله أن تكون الموضوعية النقدية لنا رائدًا ودليلا في ما نقدمه من حدس
مرتب على مشابه قوية وملابسات دليلها قاطع. وقد اكتفيت في أكثر ما قدمت بالصدر
الأول الأكبر من منظومة الأرض القفرة خشية الإطالة ؛ إذ ليس هذا مجالها وإنّما
مرادي التنبيه.
ولقد أقبلت على كتابة هذه الكلمة الموجزة في بابها، وحسبك من القلادة ما
أحاط بالعنق ، بعد مناقشة مادتها الأولى وجملة معناها مع زملاء فضلاء وطلبة أذكياء
وأساتذة علماء وغيرهم من المعارف
والأصدقاء. فمنهم من نبه على ما لم أكن لَهُ متنبها ومنهم من أعان على تيسير
المراجع أو دلّ عليها ومنهم من ساهم بالرأي وبالكلمة المفيدة - ومن ذلك مثلا أن
عنوان إليوت (لعبة الشطرنج( A game of
Chess لا يخلو من نفس امرئ القيس إذا كَانَ يلعب النرد
لما جاءه خبر مقتل أبيه ومن ذلك مثلا قول إليوت :
فيه شبه بصياغة الأمر في نحو :
قفا نبك من ذكرى...
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ....
خليلي عوجا من صدور الرواحل....
قفی قبل التفرق يا ظغينا .
Let us go then, you and I
ونحو هذا كثير. ونحو هَذَا القول محتمل. إلا أنني أرجح أن يكون «إليوت»
اقتدى بطريقة شكسبير ومعاصرية ، نحو قول شكسبير في مسرحية ريتشارد الثاني الملك
على لسانه :
Of comfort let no man speak
Let us set upon the ground
أي لا يتحدثن عن الراحة . وفيها :
أي لنجلس على الأرض. ويعجبني منها قوله ( راجع التماسة عزاء ص ٤٤):
Let's talk of graves and worms and epitaphs
Make dust our paper and with rainy eyes
Write sorrow on the bosom of the earth
وترجمته التقريبية (التماسة عزاء ٤٤ ) .
هلموا عن الأجداث والدود والرثا حديثكمو ثم اجعلوا الترب قرطاسا
ومن أعين تهمي بكالغيث سطروا على ثدي هذى الأرض للحزن أنفاسا
و شبه كلام شكسبير بقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ، في نمط الصياغة غير بعيد.
وقال در ایتون Drayton من معاصري شكسبير :
Since there is no help, let us kiss and part
وأقرب ما يترجم به هَذَا شطر بيت المثقب العبدي :
( أفاطم قبل بينك متعيني )
وليس بجد بعيد من : فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
توارد الخواطر كثير في المعاني الإنسانية ، ولكن روح التعبير هنا عربي
المعدن وكان
الأخذ في زمان النهضة الأوربية عن معارف العرب و آدابهم أمرا شائعا .
وأخذ «إليوت» عن شعراء الإنجليزية خاصة قد كفانا مئونته نقاده ، حتى بيرغس الموالي
له لم يغمض فيه وتاريخ كمبردج للأدب الإنجليزي الذي سبق أن أحلنا عليه من قبل قد
بكت «إليوت» كما مر على الأخذ بلا اعتراف وتعليق ونعى عليه استعمال التضمين والاقتباس
بطريقة آلية صارت من بعد مجرد حيلة أسلوبية عند مقلدين الكثيرين أو كما قَالَ ( ص
٨٥٣):
...A mere trick of
fashion in his numerous imitators
هذا ، ومنهم - أي ممن ناقشت - من حث حثا على تدوين ما بدا خشية أن يؤخذ من المشافهة
فأسبق إلى نشره ولا يشار إلى المصدر. وهذا قبيح. ولكن ليس السبق إلى النشر هو الغرض.
ولكن الغرض هو التنبيه على كتمان «إليوت» تقليده لطريقة العرب في صياغة القصيد -
وقد عرف العرب التضمين والإشارة وغرائب من البديع مع الذي سبق توضيحه من مذهبهم في
الوصف وتداعي المعاني على النحو الذي بين جانبا منه ليال في مقدمته القيمة. ليعي
بعضنا صياغة القصيد الذي لو أقبلنا على درسه لاغنتنا روائعه أسلوبا تقليديا ..
ويسمون إبداعًا تقليد إليوت» الذي يقلده ، فتأمل.
الآراء التي بثثت بطرف منها ههنا قديمة عند كاتب هذه الأسطر ألمح إلى بعضها
في حديثه عن أبي الطيب الذي ألقاه في المهرجان الذي أقيم له ببغداد في
تشرين الثاني سنة 1977 م
و طبعت في سفر بعنوان الطبيعة عند
المتنبي. وقد جاء فيها ذكر أخذ الشاعر إندرو مارفيل في منظومته البستان The Garden من:
(معاني الشعب طيبا في المغاني ) ديوان
المتنبي ( الطبيعة عند المتنبي
عبدالله الطيب )
. أندرو مارفيل ( ١٦٢١ - ١٦٧٨ ) التي أسماها (خواطر في حديقة )
( Thoughts in a garden ) فان اول ما استهلها بذكر النخلة وليس . في بلاده
نخل ، والظل الذي وصفه أول الامر ظل نخلة ثم قال إن خلاط الناس ليس بشيء اذا قيس
الى الوحدة والعزلة والخلوص ...
وأخذ وليم بليك في منظومته عن النمر من أسد أبي الطيب الذي ما قوبلت
عيناه..
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا تحت الدجى نار الفريق حلولا
وهذا باب يتسع فيه القول ومجال البحث . والله الحمد في المبدأ والختام وعلى
رسول الله الصّلاة والسّلام ، وعلى آله وصحبه أجمعين.